برغم ارتفاع أصوات المطمئنين الذين يزعمون أنّ الأزمة التي تمر بها سوريا اليوم إنّما هي “بجعة سوداء”. فإن الأزمة السورية هي في الواقع ذات طبيعة مختلفة تماماً. إذ إنها أقرب إلى “وحيد القرن الرمادي”. ومثلما كان عاما 2021 و2022 كئيبين وصعبين على جميع السوريين، فإن عام 2023 سيكون بلا شك عامًا آخر من الصعوبات.
البجعة السوداء ووحيد القرن الرمادي
في العام 2007، أطلق الباحث الاقتصادي نسيم طالب مصطلح “البجعة السوداء (the black swan)” على الأحداث غير المتوقعة التي يكون لها تأثير كبير، في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، وأعطى أمثلة عدة. في السياسة، كانت أحداث 11 أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة مثالًا عن بجعة سوداء. ينطبق الأمر ذاته على الكوارث الطبيعية مثل التسونامي أو ظهور أنواع جديدة من الفيروسات. وفي الاقتصاد هناك الأزمات المالية الحادة والانهيارات الاقتصادية المفاجئة.
في المقابل، طرحت الكاتبة ومحللة السياسات ميشيل ووكر، في خطابٍ في دافوس عام 2013، مصطلحًا آخر هو “وحيد القرن الرمادي (the grey rhino)”، أرادت من خلاله أن تشير إلى الصدمات والمخاطر ذات التأثير الكبير (كما “البجعة السوداء”)، مع فارق وحيد لكن أساسي: أنه يمكن التنبؤ بها. فـ”وحيد القرن الرمادي” يبعث بإشارات واضحة قبل وقوعه، لكن برغم ذلك يتم تجاهله. توسعت ووكر لاحقًا في العام 2016 في شرح المصطلح في كتابها “وحيد القرن الرمادي: كيفية التعرف على الأخطار الواضحة التي
نتجاهلها والتصرف وفقًا لها”.
إشارات تنذر بوحيد القرن الرمادي في سوريا
على عكس “البجعة السوداء” التي تظهر فجأة من دون سابق إنذار، فإن “وحيد القرن الرمادي” يظهر بعد سلسلة من التحذيرات والإشارات المرئية. فلنلقِ نظرة على بعض الإشارات في الحالة السورية:
• كان يُفترض بعد صدور المرسومين 3 و4 لعام 2020 حول التعامل بغير الليرة السورية أن تتوقف عملية المضاربة على الليرة بسبب صرامة العقوبات الواقعة على من يخالفهما، حيث تصل إلى الحبس لسبع سنوات، لكن وتيرة المضاربات زادت، ما أنتج تقلبات شديدة في سعر الصرف.
• أخذ مشهد اختفاء بعض السلع من الأسواق يتكرر بدءًا من العام 2019 (سواء الأساسية منها كالمشتقات النفطية، أو غير الأساسية مثل المتة). في المقابل، فإن السلع ذاتها كانت تنتشر في الأسواق غير النظامية على مرأى من الجميع. وبالمثل، فإننا نجد السلع “التي لا يُسمح باستيرادها” معروضة على رفوف المحال التجارية بشكل علني.
• في العام 2019، وبعد استعادة الحكومة أكثر من 70% من الأراضي السورية، توقع كثر أن تتراجع هجرة الشباب بسبب عودة الاستقرار كليًا أو نسبيًا للعديد من المحافظات والمدن. ومع ذلك، فقد استمرت هجرة الشباب والكفاءات، بل تفاقمت بعد هذا التاريخ.
• في الآونة الأخيرة، بيعت سيارة في مزاد علني أقامته المؤسسة العامة للتجارة الخارجية بمبلغ 2.5 مليار ل. س. (أي ما يعادل أجر 1,400 موظف عن عام كامل)، علمًا بأن عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية وصل إلى 14.6 مليون شخص في العام 2022، بزيادة قدرها 1.2 مليون مقارنة بالعام 2021. ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 15.3 مليون في العام المقبل” (وفقاً لاستعراض الاحتياجات الإنسانية لعام 2022 في سوريا
قبل عام، أفاد تقرير الأمن الغذائي الأسري الذي أصدرته “هيئة التخطيط والتعاون الدولي” بالتعاون مع “منظمة الغذاء العالمية” عام 2021 بأن 5.1% فقط من الأسر السورية تعتبر آمنة غذائيًا – أي أن 94.9% من السكان يعانون من أزمة أو مستويات طارئة من انعدام الأمن الغذائي، مقارنة بـ 35.8% في العام 2019.
ما ذكر سابقًا يشكل جرس إنذار يكاد رنينه لا ينقطع، منبئًا بأن “وحيد القرن الرمادي” قادم لا محالة.
استسهال وصف الأزمات بـ”البجعة سوداء” وفّر لصانعي السياسات غطاءً لإخفاقهم في مواجهة المخاطر وعزز الفوضى التي نعيشها في سوريا الآن
من هو وحيد القرن الرمادي في سوريا؟
برغم أن الإشارات المذكورة أعلاه تبدو متفرقة، إلا أنها في الواقع مترابطة بشكل ديناميكي. إذ إنها تدل على تحكم بضعة أشخاص بالاقتصاد، بعدما راكموا ثرواتهم من خارج القانون على حساب بقية فئات المجتمع. ويمكن تصنيف هؤلاء باعتبارهم (أ) أمراء حرب يمارسون أنشطة غير مشروعة تبدأ بالمضاربة على العملة ولا تنتهي بتهريب البشر وتجارة السلاح، أو (ب) تجار أزمات يحتكرون بعض السلع (خصوصًا المواد الغذائية) ويرفعون أسعارها بشكل دراماتيكي وشبه يومي، أو (ج) طبقة محدثة من رجالات المال الذين لا يملكون “تاريخًا تجاريًا”، بل عملوا كوسطاء وسماسرة لتأمين بعض السلع الأساسية بذريعة الالتفاف على العقوبات.
يشكل هؤلاء طبقة الأثرياء الجدد، ويمثلون – مجتمعين أو فرادى – “وحيد القرن الرمادي” لسوريا 2023. الذي يهدد كيان الدولة ويزعزع أركان التماسك الاجتماعي. فالافتراض الشائع بأن الفقر هو سبب أساسي لعدم الاستقرار السياسي صحيح. لكن ذلك مرهون بالوسائل والأدوات والمهارات السياسية التي يمتلكها الأثرياء الجدد – الأكثر جشعًا والأقل صدقًا من أسلافهم – المستعدون لتعبئة الناس من الفئات الأكثر فقراً في المجتمع بغرض تحدي سلطة الدولة عند الانتقاص من مزاياهم المكتسبة.
الأثرياء الجدد، والحال هذه، هم الذين يشكلون خطرًا حقيقيًا على الدولة، لا الفقراء غير الراضين عن مستوى معيشتهم. وقد أدت الحكومة دورًا في تمكينهم وتيسير بسط نفوذهم عبر غض الطرف عنهم بالحد الأدنى.
الهوس بالبجعة السوداء “غير المتوقعة”
برغم أن ظاهرتي “البجعة السوداء” و”وحيد القرن الرمادي” تمثلان سوية سلسلة الأزمات التي يتعرض لها الاقتصاد السوري، فإن الفارق بينهما يتمثل لا في النشأة والعوامل المحددة فحسب، بل في كيفية التعامل معهما أيضًا. فـ”وحيد القرن الرمادي” – كما أسلفنا – ليس حدثًا مفاجئًا، إذ إنه يرسل علامات تحذير باستمرار، تتجاهلها الحكومة وتتعامل معها ومع الأزمات المرافقة باعتبارها “غير متوقعة”، بل تكتفي بالقول إن المشكلة “كبيرة للغاية”، ومكلفة ومعقدة، ولا تتطرّق بالتالي إلى سبل مواجهتها.
إن الشعور بالعجز في مواجهة التهديدات الواضحة للعيان، واستسهال وصف الأزمات بـ”البجعة سوداء”، وفّرا لصانعي السياسات غطاءً لإخفاقهم في التصرف بمواجهة المخاطر التي تهدد المجتمع، وعززا الفوضى التي نعيشها في سوريا الآن.
من أجل لجم “وحيد القرن الرمادي”، ينبغي اتخاذ تدابير احترازية بدلًا من التركيز على أسباب عدم القدرة على حل المشكلات بسهولة. إنّ كنس المشكلات تحت البساط لفترة طويلة، من شأنه أن يزيد من احتمالات وقوع كوارث أكبر، ومن تعريض الأمن الاجتماعي والسياسي في سوريا لمخاطر متناسلة.
د . رشا سيروب